بقلم / هبة صلاح
تابعت على مدار الأيام القليلة الماضية كثير من الأخبار المتلاحقة، حيث تصدرت كلمة “القِيَم” المشهد على صفحات التواصل الاجتماعي وأظهرت حالة من الضبابية في فهم وتحديد المصطلح على المستويين الاجتماعي والديني.
كان من بين الأسئلة التي طرحتها هذه الحالة: إلى متى يتم خلط المفاهيم من أجل تحقيق نسب مشاهدة أو تفاعل على صفحات الأخبار التي يتعمد بعض القائمين عليها اختيار عناوين، بل وصياغة موضوعات هدفها الأول والأخير خلق حالة من الشقاق داخل المجتمعات؟ هل نحن بالفعل لدينا أزمة في فهم والتعامل مع قضية “القِيَم” أو ما أطلق عليه رواد مواقع التواصل “قيم الأسرة المصرية” التي أصبحت تستخدم بشكل ساخر؟!
من خلال جولة سريعة في معاجم اللغة، نجد أن كلمة “القِيَم” لها دلالات كثيرة متباينة بحسب السياق والمضمون التي تمثله، فإذا حددنا الفكرة وقلنا أننا بصدد البحث عن الأشياء التي تقوم عليها حياة الأفراد في تواصلهم وتعاملاتهم وعلاقاتهم، يهدينا القاموس معنى جميل لهذه الكلمة التي هي محل خلاف أو اعتراض بحسب تفاعل رواد مواقع التواصل، فيخبرنا المعجم أن كلمة “قيِم” هي جمع لكلمة “قيمة” التي تعني قدر الشيء أو الشخص، وفي ذات السياق نجد في المعجم القِيم تعني: الفضائل الدينية والخُلُقية والاجتماعية التي تقوم عليها حياة المجتمع الإنساني؛ إذن عند الجمع بينهما نجد أن القيمة الأساسية هي “قيمة الإنسان”-رجل كان أو امرأة- لأن هذا هو ميزان الخلق.
الحقيقة أنني وجدت خبر تغليظ عقوبة من يرتكب جريمة ختان الإناث التي أقرها مجلس الوزراء المصري منذ أيام هو أنسب ما أنطلق منه لمناقشة هذه الحالة من السيولة المعرفية عند التعرض لأي قضية تصاحب “القيم”!
فإذا ذكرنا القيم الدينية التي أقرها الخالق في الأديان كافة، نجد أنها كلها تقوم على ثلاثة محاور: الحب والخير والجمال، ومن الحب نجد صور الرحمة، إلا أننا بالرغم من كوننا في مجتمعنا ننطلق دائمأ في كل شيء من المنظور الديني (المسيحي والمسلم)، نجد من يشوه هذه المفاهيم “القيمة” التي ذكرناها والغريب أنه من منطلق ديني أيضأ! وهذا شيء عجيب.
فبحسب إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) في التقرير الذي صدر عنها عام 2018، 91% من النساء والفتيات اللواتي يتراوح أعمارهن بين 15 و49 عامًا تعرضن لشكل من أشكال العنف الجسدي وتشويه للأعضاء التناسلية بسبب الفهم والتفسير الخاطيء للدين، بناء على العادات والتقاليد البالية التي دائما تلصق جرائم الشرف بالنساء والفتيات من منطلق “القِيَم”.
هذا يأخذنا إلى نقطة هامة جدا وهي قضية الازدواجية في المعايير عندما يتعلق الأمر بالانتصار للقيم الخاصة بالرجال والنساء؛ فمن التجرية والمشاهدة، وجدنا أن الانتصار للقيم مثل الشرف والعِفة لا تعرف سبيلا للمجتمع إلا من خلال التركيز على النساء والفتيات، أما الرجال فلا حرج عليهم، لهم ما يشاؤون ويفعلون ما يطيب لهم “لأنه راجل” بحسب المصطلح العامي الدارج في هذا السياق!
إذن عندما يتعلق الأمر بالشرف، فإن المجتمع هو من يحدد هذه القيم، لا الدين، إذن فلماذا يتم إلصاق جريمة تشويه الأعضاء التناسلية للفتيات عنوة بالدين؟! بلغة أخرى، طالما أن البعض يمارس هذه الجريمة من منطلق اجتماعي لنشر العفة والفضيلة وتحجيم شهوة النساء، فلماذا يدعون أنها مطلب ديني؟! ألم يعلم هؤلاء أن هذا الدين الذي يتمسحون فيه، لم يفرق بين الرجل والمرأة في العقوبات التي جاءت بها الشريعة لتنظيم العلاقات الجنسية داخل المجتمع!
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، نجد في عالم القيم تحت هذا البند، من يدعم زواج الصغيرات دون السن القانوني بحجة “اتجوزها صغيرة تكون طوع وتربيها على إيدك”، كذلك نجد الاعتداء على حياة الفتيات بالقتل بدم بارد من خلال تشويه الأعضاء التناسلية “للحفاظ على شرف العيلة”، لذلك اعترض بعضهم على تغليظ العقوبة التي أقرها مجلس الوزراء لمن يمارس عادة الختان سواء أولياء الأمور أو الأطباء أو الممارسين لمهنة الطب!
إن هذه العقوبة التي انتظرنا تفعيلها طويلا جاءت كخطوة إيجابية على طريق القضاء على هذه العادة التي لابد أن يتم تصنيفها على أنها “جريمة ضد الإنسانية”، فهؤلاء الذين يدعون التدين لم يقرأوا قول الله تعالى: “لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم”، وهذا يغلق الباب تماما أمام كل من تسول له نفسه من أولياء الأمور أن فتياتهم بحاجة إلى تقويم لخلقتهن، إنما يجب على الآباء أن يفهموا أن التربية القويمة والسلوك القيم وكلها كلمات مشتقة من كلمة “القيم” هي السبيل إلى مجتمع يحترم قيمة الإنسان، ويعلم أن لهذا الجسد الذي أكرمه الله وخلقه بيده سبحانه وتعالى ونفخ فيه من روحه عصمة وحرمة، في حال الحياة وبعد الموت، فالجسد حرمة من حرمات الله على الأرض، لذا حرم الله قتل النفس إلا بالحق، فما بال هؤلاء يعتدون على حرمات الله وينصبون أنفسهم أوصياء على خلقه تحت مظلة كاذبة أطلقوا عليها “القيم”!
إن قيمة الإنسان وكرامته هي التي من أجلها أرسل الله الرسل يهدون الناس ويخرجوهم من ظلمات الجهل والوهم إلى نور الحق والمعرفة؛ وستظل خيبتنا وصدمتنا دائمًا مع من أولوا هذه النصوص-التي لم تفرق بين الرجل والمرأة لا في الحقوق أو الواجبات-بحسب أهوائهم، فنجد بعض مدعي العلم يوهمون الناس أن الختان للفتيات مكرمة، بل سُنة، بينما لم يرد بها حديث صحيح واحد! لذلك فإن تغليظ العقوبة جاء أيضا كأداة رادعة لمن يحرض على ارتكاب هذه الجريمة بحق الفتيات، بالرغم من إعلان الرأي الشرعي الصحيح من المؤسسة الدينية الرسمية المعنية؛ وعليه فإن الطريق مازال أمامنا طويلا ونحتاج إلى تكثيف الجهود لرفع الوعي من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وعلى رأس القائمة يأتي دور الإعلام في التوعية، فنحن نحتاج إعلام جيد يوصل الرسالة كما يجب، ويبتعد عن تلك القضايا التي لا تقدم ولا تؤخر، بل تساهم في إثارة الرأي العام ويرجع منها القاريء بخفي حنين!
مُترجمة وباحثة في علوم النوع الاجتماعي
أكاديمية الشروق للإعلام، 22 يناير 2021