هبة صلاح
نقول إن الإنسان عدو ما يجهل، هذه العبارة التي قد نتعثر في فهم معناها حتى نصادف مواقف أو أشخاص تجعلنا ندرك أن كل أمر غير واضح أو غير معلوم ماهيته لدى الطرف الآخر سيكون دائمًا محل نقد أو سخرية، وربما هجوم غير مبرر.
بينما كنت على متن الطائرة المتجهة إلى لبنان في شهر مارس 2019 للمشاركة في التدريب الأول لمركز كايسيد للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، جلس بجانبي شاب لبناني، عائدا من القاهرة بعد زيارة قصيرة، وكان الحوار عاديًا حول معالم القاهرة وأسباب الزيارة وغيرها، حتى سألني عن سبب زيارتي للبنان. عندما قلت له أنها زيارة علم وعمل للمشاركة في لقاء تدريبي حول الحوار بين أتباع الأديان، كان رد فعله غريبًا! ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة وقال لي: «الحوار بين أتباع الأديان! هذه كذبة كبيرة، فالعالم يضج بالحروب، وهم يوهمون الناس أن هناك حوار!» ثم أردف قائلا: «قد يكون الجديد في الأمر كونك امرأة تشارك في مثل هذه اللقاءات؛ فهذه الساحة يسيطر عليها الرجال!»
هذه الكلمات كانت مجرد رأي نابع من جهله بالحقيقة أو ربما هذا على قدر علمه؛ والحقيقة أنني لم أفكر لحظة في الرد عليها واتخاذ موقف المهاجم أو المُعتذر أو حتى بالموافقة؛ بل اكتفيت أنا الأخرى بابتسامة وقلت له هذا رأيك ولك كل الاحترام.
بلا شك أنا كنت محظوظة جدًا بهذا الموقف، الذي حدد لي بكل بساطة الأساس الذي سأبني عليه استفادتي من هذا التدريب، وطرحت على نفسي سؤالين: لماذا يجهل البعض حقيقة الحوار بين أتباع الأديان؟ وما سبب الصورة السائدة عن غياب النساء عن هذا المجال؟ وهل حقًا النساء غائبات لأسباب أو يتم تغيبهن عن المشهد؟
الحوار ليس علمًا مستحدثا؛ بل قام به الأنبياء الكرام في حواراتهم الكثيرة مع أقوامهم بطرق مختلفة وأساليب متعددة جاءت مناسبة لزمانهم وأحوالهم وطيبعة رسالة كل نبي؛ إلا أن مفهوم «الحوار بين أتباع الأديان» في وقتنا الحاضر أصبح مثقلًا بكثير من المعاني والأفكار الخاطئة التي تترك أثرا سلبيا في ذهن كل من يسمع به، والسبب في ذلك يرجع بالطبع إلى انتشار موجات الفكر المتطرف في الأديان والتي تهاجم الآخر بشكل عام لمجرد اختلاف العقائد أو حتى وجهات النظر بين أتباع الدين الواحد!
أما عن الهدف من خلق مساحة آمنة للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، فهو كما نقول «ضرب الفكر المتطرف في مقتل»؛ فالهدف هنا هو الوصول إلى أرضية مشتركة تُمكن الأفراد في المجتمعات من التعايش والتعاون بسلام والتخلص من فكرة النعرات الطائفية والنزعات القبلية التي تضع العلاقات الإنسانية على المحك، فقد جاء في القرآن الكريم لفظة «كلمة سواء بيننا وبينكم». هذا التعايش والتفاهم مُربك للعقلية المتطرفة التي تطلق براثنها في المجتمعات المتناحرة التي تتقاتل باسم الأديان!
هذا الفكر المناهض للجهود التي تبذلها المؤسسات الدينية لدعم وترسيخ فكرة الحوار بين أتباع الأديان تدعي أن النساء ليس لهن دور في هذا المجال استنادًا على فكرة أن النبوة لم يُكَلف بها إلا الأنبياء الرجال، ومن ثم فمجال الأديان هو مجال «ذكوري» تماما ولا عزاء للنساء، فبطبيعة الحال النساء خلقن لوظائف أخرى وعليهن الابتعاد عن مزاحمة الرجال في هذا المجال!
هذه الفرضية التي تدعي غياب النساء عن المجال العام بشكل عام ومجال الحوار بين أتباع الأديان بشكل خاص، تقف الآن ضمن العديد من القضايا المطروحة على مائدة الهدف الخامس من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 وهي المساواة بين الجنسين أو Gender Equality، حيث يسعى الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة إلى تحقيق فكرة «تمكين النساء» في شتى المجالات. إننا في الحقيقة لا نستطيع أن نحدد تماما هل النساء غائبات عن مجال الحوار بين أتباع الأديان بإرادتهن، أم هناك عوامل أخرى منها على سبيل المثال سيطرة الفكر الذكوري في مجتمعاتنا العربية؟ لذلك عندما طرحت السؤال في استطلاع رأي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، تفاعل معه 50 شخص، أكثر من 60% من الآراء قالت إن سبب غياب النساء عن مجال الحوار بين أتباع الأديان هو سيطرة الفكر الذكوري، بينما رأي 40% من المشاركين أن السبب هو ابتعاد النساء أنفسهن لانشغالهن بمجالات أخرى لاعتقادهن أن مجال الحوار ليس لهن! جاء رد واحد فقط بأنهن موجودات في مجال الحوار وبكثرة، إنما العلة هي عدم البحث والمتابعة والانخراط في المجال ذاته من قبل العامة. والحقيقة أنني وقفت عند تلك الإجابة وشعرت أنها إجابة مفتاحية، مقارنة بباقي الإجابات.
لا أخفيكم سرًا أن هذه إجابات نمطية جدًا أظهرت لي أننا في مشكلة حقيقية تحول دون معالجة كثير من القضايا الجندرية في مجتمعنا العربي وبالطبع منها قضايا دور النساء في مجال الحوار بين الأديان والثقافات. تتلخص المشكلة الرئيسية هنا في أن سيطرة الفكر الذكوري أصبحت جزء من العقل الجمعي في المجتمعات العربية، واتخذها الكثير شماعة يعلق عليها الخلل الحاصل في الأدوار الاجتماعية والدينية عند الجنسين، هذا الخلل وعدم التوازن في توزيع الأدوار نابع من فكرة التحيز الجندري/الجنساني، وهو ببساطة الميل أو التحيز لجنس دون الآخر ويعد من أكبر التحديات على المستوى الاجتماعي التي توجد في البيت وأماكن العمل وغيرها من مناح الحياة.
لذلك علينا أن ندرك أن الطريق أمامنا طويل كي نصحح هذه الصورة المغلوطة عن المساواة بين الجنسين، وما يجهله الكثير أن المساواة بين الجنسين تسعى في الأساس إلى التخلص من أي مظهر من مظاهر الضرر التي تقع على الجنسين، وبما أن النساء هن أكثر الفئات المتضررة بسبب العادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية الضارة وفي بعض الأحيان التفسيرات الخاطئة للنصوص الدينية، فيتجه المصطلح تلقائيا ويبدو أنه مجرد سعي من أجل تحقيق «حقوق النساء فقط!»، ومن ثم أصبح مصطلح «حقوق المرأة» متداولا بشكل كبير في مختلف السياقات، إلا أن ما نعرفه هو حقوق الإنسان، وكلها مفاهيم تحتاج منا جهد وخطوات عملية حتى يتم تصحيحها.
من هنا وكعادة مركز كايسيد للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، بادر المركز بالإعلان عن مشروع تمكين النساء في العالم العربي في مجال الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، وهو مشروع تدريبي سيمتد لمدة عام كامل وتشارك به ?? سيدة ممن لهن أنشطة بارزة متميزة في هذا المجال من خمسة بلدان عربية (مصر وسوريا ولبنان والسعودية والعراق)، خطوة واثقة استباقية على طريق تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 في هذا المجال، تأتي لترد على كل التساؤلات التي يطرحها هذا المقال على القارىء، فتكون التجربة خير دليل، ونخرج من نفق الصور النمطية الضيق المظلم إلى الفضاء الرحب للأديان والإنسانية حيث لا فرق بين رجل وامرأة.