هل “الأبوية” صناعة دينية؟ قراءة في الأحوال الاجتماعية

هبة صلاح

منذ بداية دراستي في مجال العلوم الاجتماعية قبل أربع سنوات تقريبًا وتخصصي في علوم “الجندر” أو “النوع” كما يتم ترجمتها في اللغة والثقافة العربية، يشغلني مصطلح “الأبوية” Patriarchy بشكل كبير، فلا يكاد يخلو حوار أو نقاش حول قضية “المساواة بين الرجل والمرأة” أو التطرق لسؤال “هل الدين ظلم النساء؟” إلا ونسمع أو نقرأ مصطلح “مجتمع ذكوري”، ولفظة “ذكوري” هذه مرتبطة ارتباط وثيق بمصطلح “الأبوية” أو “مجتمع أبوي” التي يرددها العامة أحيانا من منطلق “الموضة” ليس أكثر! وينتج عن انتشار مصطلح “الأبوية” حالة من الضبابية وخلط المفاهيم تطرح سؤالا هاما وهو: هل الأبوية فعلا صورة وانعكاس للدين؟ أو هل الدين فعلا دين ذكوري؟

الحقيقة هي أن الأبوية هي نتيجة مباشرة للتقاطعيةIntersectionality   بين الأيدولوجيات الاجتماعية وعلاقات القوى Power Relations، فمصطلح الأبوية في اللغة يعني نظام يتألف من جماعة أو جماعات، أصلها أُسر مشتركة في الدم، بحيث تخضع جميعها لسلطة حاكم هو أكبر الذكور فيها[1]، أما في الاصطلاح ينبثق “مفهوم النظام الأبوي” أو البنية الأبوية عن نموذج العلاقات كما شهدته “المجتمعات القديمة” في بنيتها السياسية والاجتماعية والنفسية[2]، وهذا يرسم ملامح طبيعة البنى للمجتمعات بشكل عام والتي بالطبع يتفرع عنها العلاقات “الجندرية” أو العلاقة بين المرأة والرجل وخاصة داخل المجتمعات العربية، أو المجتمعات “الدينية” التي تعتمد في تقيم وتحديد العلاقات على تفسيرات النصوص الشرعية بشكل أساسي، حيث تتناول العديد من الأدبيات والدراسات مفهوم النظام الأبوي في إطار الإشارة للهيمنة الذكورية وفي إطار هيمنة الرجل على المرأة منذ بزوغ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا، وهذا من الأخطاء الفادحة الشائعة للأسف! فإن مفهوم “الأبوية” كما تُعرفه جيردا ليرنر يعني تجلي ومأسسة للهيمنة الذكورية على النساء والأطفال في الأسرة، وتوسيع الهيمنة الذكورية على النساء في “المجتمع” بعامة[3]، وهنا لابد أن نقف على نموذج المجتمعات في شبه الجزيرة العربية، حيث انطلقت التشريعات ونزل الوحي على الصادق الأمين (صلى الله عليه وسلم)، كي نميز الخبيث من الطيب فيما يتعلق باتهام الدين بأنه صانع للأبوية!

فالحديث عن علاقات القوى داخل المجتمع القَبَلي الجاهلي قبل البعثة ونزول التشريع يختلف تمامًا عن المجتمع بعد البعثة في مكة ثم بعد الهجرة في المدينة، فلدينا هنا ثلاث سياقات مختلفة نقرأ من خلالها مفهوم الأبوية قراءة واقعية من المجتمع، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.

حيث إنني بصدد التعامل مع الأبوية كمصطلح، أرى أن أسوق للقارئ نموذج لعلاقات القوى التي كانت سائدة بين الجنسين في مجتمع الجاهلية أو ما قبل البعثة من خلال المصطلحات كما ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم وصورها لنا صور بليغة تعرفنا على طبيعة المجتمع آنذاك، نجد على سبيل المثال لا الحصر أن المرأة في هذا المجتمع كانت تابع للرجل أو كما نقول “ظل للرجل”، ولم تكن تتمتع بحقوق تُذكر، فكان الرجل هو الحاكم ورئيس القبيلة وهي تتبعه في كل شيء مثل ظله دون المطالبة بأي حقوق إنسانية حتى حقها في الحياة، ومن أشرس صور التسلط والهيمنة الذكورية على النساء في هذا المجتمع كانت ظاهرة “وأد البنات”.

كان العرب في هذا المجتمع يتشاءمون من ولادة البنات ويعتبرهن مصدرا لجلب العار خوفا من خطفهن وبيعهن في الأسواق جاريات، نعم كانت النساء سلعة تباع وتشترى، وكان النظر لهن وقتئذ مجرد وسيلة لإشباع رغبات جنسية، أما في الحقيقة هن لا ينفعن في شيء ومن ثم لا داعي لبقائهن على قيد الحياة ولذا كان يتم وأدهن فور الولادة! لذلك ورد في القرآن الكريم لفظة “الموءودة” في سورة التكوير ” وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَت، بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ” فهذا استنكار من الشارِع الحكيم سبحانه وتعالى لهذه العادة الذميمة التي تُصَنف في وقتنا الحالي “اعتداء على حقوق الإنسان”، فالإنسان يشمل المرأة والرجل على حد سواء دون تميز أو تفريق وكلاهما من خلق الله المُكرَم على سائر المخلوقات “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا”[4] فهل وقف الشارع الحكيم عند ذلك التكريم فحسب؟ بالطبع لا، فقد حرم الله قتل النفس إلا بالحق، ولا يوجد أي حق في الدنيا يبيح للرجل أن يقتل الأنثى لمجرد أنها أنثى!

جمعت لفظة “الموءودة” أقسى صور الظلم والقهر والتسلط الذي تعرضت له النساء في المجتمعات الجاهلية التي تجلت فيها معان الأبوية وتسلط الرجال على النساء واعتبارهن جنس أدنى، بل جنس غير مرغوب فيه من الأساس! حتى اختلفت الصورة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم والذي كان بيته نموذجًا تجلت فيه صور الدفاع عن النساء وحقوقهن في جميع مناح الحياة.

لم تكن هناك مساحة للنساء عامة بالثورة على تلك النظم القاهرة المسيطرة عليهن قبل البعثة النبوية إلا أننا بالطبع نستثني من ذلك سيدات المجتمع وقتئذ من أمثال السيدة خديجة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) وغيرها ممن نجحن في ظل هذا المجتمع الأبوي أن يخصصن لأنفسهن مكانة اجتماعية وعملية أطاحت بكل تلك القيود، وهذا يذكرني بما قامت به بعض النساء في عصرنا الحاضر من ثورة على عادات المجتمع  التي تكبل النساء وتضعهن في مرتبة أدني من الرجال بناء على تفسيرات مشوهة للنصوص الدينية رسخت في الأذهان أن الأبوية في الأساس صناعة دينية وهذا غير صحيح كما جاء في تعريف الوعي “النسوي” لجيردا ليرنر على أنه وعي النساء بأنهن ينتمين إلى فئة ثانوية، وأنهن تعرضن للظلم باعتبارهن نساء، وأن وضعهن الثانوي الخاضع ليس وضعا مرتبطا بالطبيعة وإنما هو مفروض “اجتماعيا…”[5] فالأبوية أو ذكورية المجتمع هي في الأساس نتاج ثقافة المجتمعات ولم ولن تكون تشريع أتت به نصوص الدين سواء القرآن أو السُنة، وإنما هي تفسيرات جاءت بها عقليات معادية لسنة الله في خلقه للرجل والمرأة لتحقيق أغراض في النفس ونسبت الأبوية أو الذكورية زورًا إلى الدين.

بالنظر إلى بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وحياته مع السيدة خديجة عليها السلام في مكة نجد أن زوجته كانت مستقلة ماديًا ولها من رجاحة العقل والحكمة ما جعلها ملاذه الأول والأخير بعد أن تلقى الوحي في غار حراء وكانت سببًا في كل خير آتاه وهذا بشهادته هو صلى الله عليه وسلم: “آمنت بِي إذ كذبنِّي النَّاس، وأعطتنِي إذ حرمنِي النَّاس، وواستنِي بمالها عِندما منعنِي النَّاس، ورزقنِي الله منهَا الولد”، يقول بعض المفسرين إن القرآن الكريم أشار إلى السيدة خديجة عليها السلام في سورة الضُحى بقول الله تعالى “ووجدك عائلا فأغنى” لكونها هي المقصودة التي أغنت الرسول صلى الله عليه وسلم ماديا ومعنويا وروحيا، وكانت  أول من أسلم من النساء بكامل إرادتها، إضافة إلى ذلك، فإن جُل الظلم او الاعتداء الذي تعرضت له المساء المسلمات في مجتمع مكة بعد البعثة كان سببه الأول والرئيس هو تغير الدين، أو اعتناق الإسلام الذي وقفت أمامه القبائل في مكة لأنهم اعتبروه تهديدا لأمنهم القومي بلغة وقتنا الحالي، ولم يكن القهر سببه تعاليم الدين وهذا فرق جوهري لابد من توضيحه.

النموذج الثالث والأخير الذي نتطرق إليه هو نموذج المرأة في مجتمع المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فمجتمع المدينة تميز بكونه مجتمع متعدد الثقافات والأديان جمع بين المهاجرين والأنصار ممن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك وجود النصارى واليهود والذي جمعهم العيش المشترك تحت مظلة وثيقة المدينة، فكان المجتمع متطور واختلف الخطاب القرآني الموجه للنساء في هذا المجتمع الجديد عما جاء به الوحي في الفترة المكية، فنجد على سبيل المثال الإشارة إلى “يا نساء النبي” وأصبحت المرأة هي الشخصية الأساسية في بعض السور المدنية التي اشتملت على آيات مطولة تسرد قصصا عن النساء وأمورهن مثل سور (الأحزاب، المجادلة، الممتحنة). فكان للنساء صوت ومشاركة فاعلة في المجتمع بطبيعته الجديدة التي فتحت الآفاق للجميع رجالا ونساء على حد سواء، فاهتمت النساء على سبيل المثال في مجتمع المدينة بالقرآن الكريم وتفقهن في التفسير والدراسة وطرح الأسئلة على النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يفتح أبواب بيته ومسجده للجميع وعلى رأسهن السيدة عائشة (رضي الله عنها) زوج النبي وبعض النساء حفظن القرآن عن ظهر قلب.

وكان لنساء النبي جميعا (رضي الله عنهن) مشاركة واضحة في الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية، وكان لكل منهن تجارة وعمل أو بلغة العصر Business  فكانت السيدة زينب بنت جحش (رضي الله عنها) صوامة قوامة كثيرة الصدقة “تعمل بيدها” وتتصدق كما قالت عنها السيدة عائشة رضي الله عنها، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يصحبهن معه في سفره أو غزواته وكن يشاركن في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما يتناقض تماما مع تعريف النظام الأبوي الذي تحدثت عنه  Maggie Humm وعرفته بأنه نظام يتمتع فيه الرجال بسلطة قهر النساء عبر مؤسسات النظام الأبوي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ونجد في كافة أشكال المجتمعات الأبوية، الإقطاعية منها أو الرأسمالية أو الاشتراكية، وجود نظامين متزامنين من التمييز الجندري والتمييز الاقتصادي. ويتمتع الرجال في النظام الأبوي بالسلطة النابعة من امتلاكهم القدرة على الوصول إلى مصادر ومكاسب البنى السلطوية والتحكم فيها داخل وخارج المنزل[6].

فهذا التعريف السابق للنظام الأبوي يحسم القضية ولا يترك مجالا للحديث عن مفهوم الأبوية كونها صناعة دينية أو يترك فرصة ولو ضئيلة لمن يهاجمون الدين ويشككون العامة في التشريعات المتعلقة بتنظيم العلاقات بين الرجال والنساء من المنظور الإسلامي، فعلاقات القوى داخل المجتمعات يتم بنائها أو تداخلها بحسب المنفعة والمصلحة لصالح كل طرف من أطراف الصراع، وهذا ليس له مكان أو وجود في نصوص الدين سواء القرآن أو السُنة وهما المصدران الأساسيان للتشريع، وإن كان هناك أحاديث يعتمد عليها البعض في إلصاق مفهوم الأبوية بنصوص السُنة، فكلها أحاديث مفبركة أو ضعفها علماء الحديث اقتطعت من سياقها وعلى رأسها حديث “ناقصات عقل ودين”.

وعلى ذلك فإن ثنائية المجالين العام والخاص أو علاقات القوى في مجتمعاتنا الحديثة تخلق مساحات اجتماعية خاصة بالرجال والنساء ومنفصلة على أساس جندري، ويتم ربط المجال الخاص بالنساء وإكسابه سمات أنثوية (باعتباره يتسم بالحميمية واللاعقلانية والعاطفية…) وهي سمات تقع على النقيض من الرجل الذي يحتل الحيز العام (المتسم بالعقلانية والموضوعية …)[7].

وتعكس الأدوار الجندرية وجود اتفاق اجتماعي تصوغه النخب الأبوية التي تحيل النساء إلى وضعية تحتل الحيز الخاص ولا تتمتع بحق التواجد في المجال العام، وهذا ما نجده على سبيل المثال لا الحصر في مجال الفتوى والإفتاء حيث أصبح دور المفتيات من النساء يقتصر على التعامل مع الأمور الفقهية المتعلقة بقضايا النساء فقط والتي نعني بها (الزواج والطلاق والحيض والنفاس والتجميل وغيرها). وبالبحث تبين أنه لا توجد قوانين تمنع النساء من تقلد أو التقدم للمناصب القيادية أو الفتوى داخل المؤسسة الدينية، وإنما القضية تكمن في الوعي أو العقل الجمعي الذي شكلته “الأبوية” أو الذكورية وجعلت النساء لا يقدمن على التقدم لهذه المناصب أو مواصلة التعلم والبحث، وهذا يمثل شريحة كبيرة منهن، لأن الصورة السائدة هي أن المجتمع لا يرى المرأة في الفتوى أو المجال الديني بشكل عام إلا في وجود الرجال وتحت رعايتهم، وهذا وضع اجتماعي وليس “ديني”.

إن كل ما نحتاجه هو البحث وتبني نظرة نقدية للذات وتأمل واقع وتجارب الحياة ذاتها، تقوم هذه النظرة على دراسة الخلفية الاجتماعية والافتراضات الشخصية من حيث كيفية تداخلها وتقاطعها، فمعتقداتنا وخلفياتنا ومشاعرنا جزء من عملية بناء ذواتنا وأفعالنا ومن ثم إدراك المعنى الصحيح للمفاهيم بعيدا عن النظرة الأحادية للدين كونه سبب جميع المصائب في الحياة!

نٌشر بجريدة الدستور الأردنية بتاريخ/ 26 سبتمبر 2020

المراجع:

[1]  المعجم الوسيط.

[2] د/ هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية. الطبعة الثانية، أكتوبر 1993.

[3]  جيردا ليرنر، نشأة النظام الأبوي. ترجمة أسامة إسبر. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2013.

[4]  سورة الإسراء: الآية 70

[5] Gerda Lerner, The Creation of Feminist Consciousness: From the Middle Ages to Eighteen-seventy (New York and Oxford: Oxford University Press, 1993), p.14.

 

[6] Maggie Humm, The Dictionary of Feminist Theory, Ohio State University Press, 1990.

 

[7] Joyce Green, “Public/Private” in Encyclopedia of Feminist Theories, ed. Lorraine Code, Routledge, 2000, p. 412.

 

لم يتم العثور على نتائج

لم يمكن العثور على الصفحة التي طلبتها. حاول صقل بحثك، أو استعمل شريط التصفح أعلاه للعثور على المقال.